الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لأسمائه الحسنى وصفاته العلا، الحمد لله الذي خلق الجنة للمؤمنين، وأعد النار للكافرين، الحمد لله كما ينبغي لألوهيته وربوبيته ورحمانيته، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، لك الحمد لا إله إلا أنت. لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد ملء السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق والجنة حق، والنار حق، والنبيّون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمنا، وبك آمنا، وعليك توكلنا، وإليك أنبنا، وبك خاصمنا، وإليك حاكمنا، فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم، وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير. وأصلي وأسلم على قائدي وقدوتي محمد النبي الرسول صلى الله عليه وسلم، وارض اللهم عن الصحابة والتابعين، ومن دعا بدعوتهم إلى يوم الدين. عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3].. إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً [الأنفال:29] تفرقون به بين الحق والباطل. أيها الأحبة! إني أحبكم في الله، بعض الناس إذا نصحته: يا هذا! اترك الذنب وعد إلى مولاك الذي أعد لك الجنة، قال: إن الجنة بعيدة، دعني أتمتع في حياتي فإن بعد الحياة موتاً، وهذا المسكين يظن أن الجنة بعيدة بينها وبين المسلم ملايين السنين والعصور والأحقاب، وما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله) والقرآن العظيم يقول: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [قّ:31] الذي يقول: ((غَيْرَ بَعِيدٍ))، هو الله، واسأل بالجنة خبيراً وهو الله، واسأل عليماً رآها بعينه، وشمها بأنفه، وذاق منها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً [المعارج:6-7]. الزمن المستغرق لوصول المؤمن إلى الجنة وقرب الجنة -أيها الأحباب- لو حسبته بالمقياس الزمني بين موت الإنسان وبين دخوله الجنان قد لا يصل إلى نصف ساعة، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد إذا مات وكان من المؤمنين فإن قبره روضة من رياض الجنة، وكم ما بين موته وبين دفنه إلا دقائق معدودات، فهذه بشائر الجنة، روضة فيها الروح والريحان، والنور والإحسان، والبر والرضوان، ينظر فيها إلى الحور والنور والقصور والزهور والطيور، حتى إنه يستعجل ربه فيقول: رب أقم الساعة لأذهب إلى أهلي ومالي، لا يريد أن ينتظر ثانية واحدة، وأين هذه الثانية؟ الثانية التي لا يريد أن ينتظرها في روضة من رياض الجنة، لأنه لما ذاق تلك الروضة وصار قبره مد البصر، اشتاقت روحه حتى أصبحت لا تطيق أن تبقى في القبر لحظة، فأخذ يصيح: رب أقم الساعة! لأذهب إلى أهلي ومالي! الملائكة تقول: ليس الآن نم في قبرك نوم العروس. ويأتي الحديث يقول: (ما بين موت المسلم إلى بعثه في عالم البرزخ كصلاة ظهر أو كصلاة عصر) فكم أخذت صلاة الظهر منا؟ عشر دقائق، ومن بَعْثه يُنقل إلى عرش الرحمن وظله فيكون تحت الظل كصلاة ظهر أو كصلاة عصر، أضف عشر دقائق، الوقت الزمني على الكافرين طويل طويل، ففي القبر والبرزخ تتمدد الأوقات بالعذاب وإذا كان يوم الحشر كان عليهم كخمسين ألف سنة، وعلى المتحابين في الله أو شاب نشأ في طاعة الله، أو إمام عادل، أو رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، أو اثنان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، أو رجل أنفق بيمينه ما لا تعلم شماله، أو رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، وأصناف وأقسام لا يعلمها إلا الله، هذه ليست للحصر، وما يعلم فضل ربك إلا هو، تحت ظل العرش كصلاة ظهر أو كصلاة عصر، ثم الحوض الذي عدد أكوابه كعدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً، ومن يمل أو يحس في الوقت الزمني يوم أن يغرف له بيد النبي صلى الله عليه وسلم أو الملائكة أو المؤمنين أو بيده المتوضئة الطاهرة من ماء يتدفق من نهر الكوثر؟ الذي حافتاه من الفضة والذهب واللؤلؤ المجوف، وطينته من المسك الأبيض، فهو أحلى من العسل وأبرد من الثلج وأبيض من اللبن، يصب ميزابان من ذهب متدفق من أعلى الفردوس إلى حوض محمد صلى الله عليه وسلم. وما بعد ذلك إلا الصراط، وهناك معظم أمة محمد يمرون على الصراط كالبرق أو كالريح الشديدة أو الجواد السريع أو طرف العين، لأن أمته أمة مرحومة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن أمتي هذه أمة مرحومة جعل الله عذابها بما يصيبها من اللأواء، أي: أن الله لا يقبض عبداً مسلماً موحداً عليه ذنوب إلا ويسلط عليه في الدنيا ما يمحص الذنوب من الهم والغم، والمرض والبلاء فيصبر ويحتسب فيقبضه وما عليه خطيئة واحدة). ثم بعد محو الخطايا تبقى حقوق العباد، يصلح الله بين العباد يوم القيامة، فلهذا لا تحملوا هموم الذنوب واحملوا هموم الحقوق المسلوبة والأعراض المنهوبة، والأموال المسروقة يوم أن تأتي الشاة القرناء فتنطحها الجماء لتمام عدل الله رب الأرض والسماء. فالله يقول للعاصين في حقه: (لو جئتني بملء الأرض خطايا لجئتك بملئها مغفرة، ولو بلغت ذنوبك عنان السماء لغفرتها لك ما استغفرتني ولا أبالي) فاحذروا من ظلم الناس. وعلى الصراط كالبرق، كطرف العين، كالجواد السريع، كالريح المرسلة، ثم بعد ذلك عند باب الجنة، وعندها محمد صلى الله عليه وسلم يمسك بحلقتها يقعقع الباب، وأصوات وأنغام لم يسمع لها مثيل، لا تظن أن باب الجنة يفتح بجرس يضرب، أو بحاجب يأذن لك ويوقفك ساعات طوال ذليلاً مهاناً كما يقف الناس على أبواب الملوك، الجنة فيها رضوان يقول: من؟ يقول له: محمد، فيقول: لك أمرت أن أفتح، وتفتح أبواب الجنة الثمانية، فيدخل المؤمنون ومن أبوابها ما هو مسيرة أربعين عاماً. أعلى الصفحة الصبر عن ملذات الدنيا بغية ما عند الله أخي في الله! إذا أصابك الهم أو الغم، أو رأيت من زخرف الدنيا ما يتطلع إليه قلبك، فتذكر ما عند الله وما بيد الله يهون عليك كثيراً. ذُكر أن أحد الصالحين كان يمر على الفاكهة في السوق فلا يستطيع أن يشتريها، فيقول: إن موعدك الجنة، وهذا السلوك ليس بدعة، فهو من سنة محمد صلى الله عليه وسلم يجهله كثير من الناس، فقد كان يمر على آل ياسر وهم يعذبون، فلا يطعمون ولا يسقون ولا يرتاحون، يصب عليهم العذاب صباً، ولا يمكن أن ينصرهم في الدنيا بيده، فكان يقول لهم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة). وأنا أقول للغرباء في زماننا هذا، أقول للدعاة المخلصين في سجون الطغاة الذين يرفلون بالسلاسل والحديد، وأقول لكل أخت وأم وامرأة فقدت ابنها أو زوجها أو أخاها: اصبري فإن موعدك الجنة مهما طال ليل الظالمين، مهما احلولكت ظلماته، فإن الصبح والإفراج قريب: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [ق:31] والجنة ما أدراك ما الجنة! استمع ماذا يقول عنها الحبيب صلى الله عليه وسلم: (لو أن امرأة في الجنة اطلعت بخمارها لملأت ما بين السماء والأرض عطراً وطيباً) إذا دخلت قصور الملوك تشم روائح عجيبة، لأن أطيب الطيب يجلب إليهم، ولكن كم مداه؟ يملأ غرفة؟ يملأ قاعة؟ كم سيدوم؟ ما تقول عن أشعث أغبر مدفوع في الأبواب لا يؤبه لو أقسم على الله لأبره، خمار زوجته من الحور العين لو اطلعت على السماء والأرض لملأت ما بينهما عطراً وطيباً؟